فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)}.
هذا التساؤل الذي بين أهل الجنة هو تساؤل راحة وتنعم يتذكرون أمورهم في الجنة وأمر الدنيا وحال الطاعة والإيمان فيها، ثم أخبر الله تعالى عن قول {قائل منهم} في قصته فهو مثال لكل من له {قرين} سوء يعطي هذا المثال التحفظ من قرناء السوء، واستشعار معصيتهم وعبر عن قول هذا الرجل بالمضي من حيث كان أمرًا متيقنًا حاصلًا لا محالة، وقال ابن عباس وغيره كان هذان من البشر مؤمن وكافر، وقالت فرقة: هما اللذان ذكر الله تعالى في قوله: {يا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا} [الفرقان: 28] وقال مجاهد كان إنسيًا وجنيًا من الشياطين الكفرة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أصوب، وقرأ جمهور الناس {من المصدقين} بتخفيف الصاد من التصديق، وقرأت فرقة {من المصّدقين} بشد الصاد من التصدق، وقال فرات بن ثعلبة البهراني في قصص هذين إنهم كانا شريكين بثمانية آلاف دينار فكان أحدهما يعبد الله ويقصد من التجارة والنظر وكان الآخر كافرًا مقبلًا على ماله فحل الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن ثم إنه جعل كلما اشترى شيئًا من دار وجارية وبستان ونحوه عرضه على ذلك المؤمن وفخر عليه به فيمضي المؤمن عند ذلك ويتصدق بنحو ذلك الثمن ليشتري به من الله في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمنته هذه الآية، قال الطبري: وهذا الحديث يؤيد قراءة من قرأ {من المصّدّقين} بتشديد الصاد، و{مدينون} معناه مجازون محاسبون قاله ابن عباس وقتادة والسدي، والدين الجزاء وقد تقدم.
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)}.
في الكلام حذف تقديره فقال لهذا الرجل حاضرون من الملائكة إن قرينك هذا في جهنم يعذب فقال عند ذلك {هل أنتم مطلعون} ويحتمل أن يخاطب ب {أنتم} الملائكة، ويحتمل أن يخاطب رفقاءه في الجنة، ويحتمل أن يخاطب خدمته وكل هذا، حكى المهدوي وقرأ جمهور القراء {مطَّلعون} بفتح الطاء وشدها، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين {مطْلعونَ} بسكون الطاء وفتح النون، وقرأ أبو البرهسم بسكون الطاء وكسر النون علي أنها ضمير المتكلم ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها، وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم، والوجه أن يقال مطلعي، ووجه القراءة أبو الفتح بن جني وقال: أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع، وأنشد الطبري: الوافر:
وما أدري وظن كل ظن ** أمسلمني إلى قومي شراحي

وقال الفراء: يريد شراحيل، وقرأ الجمهور {فاطّلع} بصلة الألف وشد الطاء المفتوحة، وقرأ أبو عمرو في رواية حسن {فأُطْلِع} بضم الألف وسكون الطاء وكسر اللام، وهي قراءة أبي البرهسم، قال الزجاج هي قراءة من قرأ {مطلِعون} بكسر اللام، وروي أن لأهل الجنة كوى وطاقات يشرفون منها على أهل النار إذا شاؤوا على جهة النقمة والعبر لأنهم لهم في عذاب أهل الناس وتوبيخهم سرور وراحة، حكاه الرماني عن أبي علي، و{سواء الجحيم} وسطه قال ابن عباس والحسن: والناس، وسمي {سواء} لاستواء المسافة منه إلى الجوانب، و{الجحيم} متراكم جمر النار، وروي عن مطرف بن عبد الله وخليد العصري أنه رآه قد تغير خبره وسيره أي تبدلت حاله ولولا ما عرفه الله إياه لم يميزه، فقال له المؤمن عند ذلك {تالله إن كدت لتردين} أي لتهلكني بإغوائك، والردى الهلاك ومنه قول الأعشى: المتقارب:
أفي الطوف خفت علي الردى ** وكم من رد أهله لم يرم

وفي مصحف عبد الله بن مسعود {إن كدت لتُغوين} بالواو من الغي، وذكرها أبو عمرو الداني بالراء من الإغراء والتاء في هذا كله مضمومة، ورفع {نعمةُ ربي} بالابتداء وهو إعراب ما كان بعد {لولا} عند سيبويه والخبر محذوف تقديره تداركته ونحوه، و{المحضرين} معناه في العذاب، وقوله المؤمن {أفما نحن} إلى قوله: {بمعذبين} يحتمل أن يكون مخاطبة لرفقائه في الجنة لما رأى ما نزل بقرينه، ونظر إلى حاله في الجنة وحال رفقائه قدر النعمة قدرها فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة {أفما نحن بميتين} ولا معذبين، ويجيء على هذا التأويل قوله: {إن هذا لهو الفوز العظيم} إلى قوله: {العاملون} متصلًا بكلامه خطابًا لرفقائه، ويحتمل قوله: {أفما نحن} إلى قوله: {بمعذبين} أن تكون مخاطبة لقرينه على جهة التوبيخ، كأنه يقول أين الذي كنت تقول من أنا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب، ويكون قوله تعالى: {إن هذا لهو الفوز} إلى {العاملون} يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه، وإليه ذهب قتادة، ويحتمل أن يكون من خطاب الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ويقوى هذا لأن قول المؤمن لمثل هذا فليعمل، والآخرة ليست بدار عمل يقلق إلا على تجوز كأنه يقول لمثل هذا كان ينبغي أن يعمل {العاملون}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي يتفاوضون فيما بينهم أحاديثهم في الدنيا.
وهو من تمام الأُنس في الجنة.
وهو معطوف على معنى {يُطَاف عَلَيْهِم} المعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشُّراب.
قال بعضهم:
وما بَقيتْ من اللّذاتِ إلا ** أحاديثُ الكِرامِ على المُدامِ

فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا؛ إلا أنه جيء به ماضيًا على عادة الله تعالى في إخباره.
قوله تعالى: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ} أي من أهل الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي صديق ملازم {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} أي بالمبعث والجزاء.
وقال سعيد بن جبير: قرينه شريكه.
وقد مضى في الكهف ذكرهما وقصتهما والاختلاف في اسميهما مستوفًى عند قوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ} [الكهف: 32] وفيهما أنزل الله جل وعز: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} إلى {مِنَ المحضرين} وقيل: أراد بالقرين قرينه من الشيطان كان يوسوس إليه بإنكار البعث.
وقرئ: {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ} بتشديد الصاد.
رواه عليّ بن كيسة عن سليم عن حمزة.
قال النحاس: ولا يجوز {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ} لأنه لا معنى للصدقة هاهنا.
وقال القشيري: وفي قراءة عن حمزة {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ} بتشديد الصاد.
واعترض عليه بأن هذا من التصديق لا من التصدّق.
والاعتراض باطل؛ لأن القراءة إذا ثبتت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا مجال للطعن فيها.
فالمعنى {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَّدِّقِينَ} بالمال طلبًا في ثواب الآخرة.
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} أي مجزيون محاسبون بعد الموت ف {قَالَ} الله تعالى لأهل الجنة: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ}.
وقيل: هو من قول المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين.
وقيل: هو من قول الملائكة.
وليس {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} باستفهام، إنما هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا؛ قاله ابن الأعرابي وغيره.
ومنه لما نزلت آية الخمر، قام عمر قائمًا بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: يا رب بيانًا أشفى من هذا في الخمر.
فنزلت: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] قال: فنادي عمر انتهينا يا ربَّنا.
وقرأ ابن عباس: {هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ} بإسكان الطاء خفيفة {فَأُطْلِعَ} بقطع الألف مخفَّفة على معنى هل أنتم مقبلون فأقبل.
قال النحاس: {فَأُطْلِعَ فَرَآهُ} فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلًا مستقبلًا معناه فأطلع أنا، ويكون منصوبًا على أنه جواب الاستفهام.
والقول الثاني أن يكون فعلًا ماضيًا ويكون اطلع وأُطْلِعَ واحدًا.
قال الزجاج: يقال طَلَع وأَطْلعَ واطلع بمعنًى واحد.
وقد حكي {هَلْ أَنتُم مُّطْلِعُونِ} بكسر النون وأنكره أبو حاتم وغيره.
النحاس: وهو لحن لا يجوز؛ لأنه جمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافًا لكان هل أنتم مُطْلِعيّ، وإن كان سيبويه والفرّاء قد حكيا مثله، وأنشدا:
هُمُ القائلونَ الخيرَ والآمِرونَهُ ** إذا ما خَشَوا مِن مُحْدَثِ الأمرِ مُعْظَما

وأنشد الفراء: والفاعلونه.
وأنشد سيبويه وحده:
ولم يَرْتفِق والناس محتضِرونه

وهذا شاذٌ خارج عن كلام العرب، وما كان مثل هذا لم يحتجّ به في كتاب الله عز وجل، ولا يدخل في الفصيح.
وقد قيل في توجيهه: إنه أجرى اسم الفاعل مجرى المضارع لقربه منه، فجرى {مُطْلِعُون} مجرى يطلعون.
ذكره أبو الفتح عثمان بن جني وأنشد:
أرأيتَ إن جئتُ به أمْلُودَا ** مُرَجَّلًا ويَلْبَسُ الْبُرُودَا

أقائِلُنَّ أحضِروا الشُّهُودَا

فأجرى أقائلُنّ مجرى أتَقولُن.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فاطلع فَرَآهُ} إنّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار وأهلِها.
وكذلك قال كعب فيما ذكر ابن المبارك، قال: إن بين الجنة والنار كُوًى، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ كان له في الدنيا اطلع من بعض الكوى؛ قال الله تعالى: {فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجحيم} أي في وسط النار والحسَكُ حواليه؛ قاله ابن مسعود.
ويقال: تعبت حتى انقطع سَوَائي: أي وسطي.
وعن أبي عبيدة: قال لي عيسى بن عمر: كنت أكتب يا أبا عبيدة حتى ينقطع سَوَائي.
وعن قتادة قال قال بعض العلماء: لولا أن الله جل وعز عرَّفه إياه لما عرفه، لقد تغيرّ حِبْرُهُ وسِبْرُهُ.
فعند ذلك يقول: {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} {إِن} مخففة من الثقيلة دخلت على كاد كما تدخل على كان.
ونحوه {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} واللام هي الفارقة بينها وبين النافية.
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين} في النار.
وقال الكسائي: {لَتُرْدِينِ} أي لتهلكني، والردى الهلاك.
وقال المبرد: لو قيل {لتردِينِ} لتوقعني في النار لكان جائزًا.
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبيِّ} أي عصمته وتوفيقه بالاستمساك بعروة الإسلام والبراءة من القرين السوء.
وما بعد لولا مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف.
{لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} قال الفراء: أي لكنت معك في النار محضرًا.
وأحضر لا يستعمل مطلقًا إلا في الشر؛ قاله الماوردي.
قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} وقرئ {بِمائِتِين} والهمزة في {أَفَمَا} للاستفهام دخلت على فاء العطف، والمعطوف محذوف معناه أنحن مخلَّدون منعَّمون فما نحن بميتين ولا معذبين.
{إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى} يكون استثناء ليس من الأول ويكون مصدرًا؛ لأنه منعوت.
وهو من قول أهل الجنة للملائكة حين يُذبَح الموت، ويقال: يأهل الجنة خلود ولا موت، ويأهل النار خلود ولا موت.
وقيل: هو من قول المؤمن على جهة الحديث بنعمة الله في أنهم لا يموتون ولا يعذّبون؛ أي هذه حالنا وصفتنا.
وقيل: هو من قول المؤمن توبيخًا للكافر لما كان ينكره من البعث، وأنه ليس إلا الموت في الدنيا.
ثم قال المؤمن مشيرًا إلى ما هو فيه، {إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} يكون {هو} مبتدأ وما بعده خبر عنه والجملة خبر إنّ.
ويجوز أن يكون {هو} فاصلًا.
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعدّ الله له في الجنة وما أعطاه قال: {لِمِثْلِ هذا} العطاء والفضل {فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
نظير ما قال له الكافر: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34].
ويحتمل أن يكون من قول الملائكة.
وقيل: هو من قول الله عز وجل لأهل الدنيا؛ أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء، و{لِمِثِلْ هَذَا} الجزاء {فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
النحاس: وتقدير الكلام والله أعلم فليعمل العاملون لمثل هذا.
فإن قال قائل: الفاء في العربية تدل على أن الثاني بعد الأول، فكيف صار ما بعدها ينوى به التقديم؟ فالجواب أن التقديم كمثل التأخير؛ لأن حق حروف الخفض وما بعدها أن تكون متأخرة. اهـ.